الشّعراء نُقَّاداً "أبو تمَّام أُنموذجا"

الملخص

ممّا لا خلافَ فيه بين الباحثين والنُّقّادِ ودارسي الأدب أنَّ العصر العبّاسيُّ يمثِّلُ العصرَ الذَهبِيَّ للأمّةِ العربيّة في شتّى مناحي الحياة وضُروب الفكر والأدب، حتّى تكاد هذه المقولة تكونُ محطَّ إجماعِهم.

ولمّا كان الأدب رصداً للواقع ومُنتَجاً من مُنتَجاته وحاملاً لما يظهرُ في كلِّ عصرٍ من مظاهرَ جديدةٍ للحياة وتيّارات فكريّةٍ وثقافيّة؛ كان لا بدَّ أن تظهرَ هذه التّغييرات والتّحوُّلات الفكريّة على صفحةِ الأدب.

وصحيحٌ أنَّ التَّغييرات الأولى في مجال الأدب – ولا سيَّما الشِّعر -  حدثت في صدر الإسلام عندما انتقلَ العرب من بواديهم إلى الحواضر، وخرجوا إلى أقاليم جديدة، فمالت ألفاظ الشّعر وعباراتُه إلى الرِّقّة والعُذوبةِ، واتّسعَت موضوعاته؛ غير أنَّ هذه التّغييرات كانت طفيفةً لم ينتج عنها الخُروج على الموضوعات التّقليديّة، ولم تُشكِّل تغييرات فنِّيّةً جذريّةً تمسُّ جوهر الشّعر، فظلَّ في إطار الحُدود الّتي رسمِها الجاهليُّون والخطُط الّتي اختَطُّوها، وظلَّ الشِّعرُ مُحافظاً على روح البداوة القديمة في بناء القصيدة وفي الصّياغة الشّعريّة والمعاني. وظهر في الشّعرِ تيّاران لا يكاد مؤرّخو الأدب يخرجون عن تقسيم الشّعر والشُّعراء على أساسِهما: تيّار التّقليد، ويضمُّ طائفةً من الشّعراء الّذين حافظوا على النَّهج القديم للقصيدة؛ وتيّار التّجديد، وظهر هذا التّمايز بين الفئتين واضحاً في القرن الثّالث الهجريّ عندما ظهر شعراء ابتعدوا عن الصّياغة الشّعريّة الّتي جرى عليها شُعراءُ الجاهليّة وصدر الإسلام، وكان من هؤلاء الشُّعراء ابن المعتزِّ وأبو تمّام.

ورافقت هذه الحركة الإبداعيّة حركةٌ نقديّةٌ مُوازية قادَها علماءُ العربيّة والشُّعراء أنفسُهم؛ لأنَّ الشّاعر في هذا العصر امتلك ثقافة أدبيّة وفكريّة واسعة نتيجة ما ظهر في عصره من صِراع بين القديم والجديد وتيّارات فكريّة وفلسفيّة، وكان الشّاعر شاهداً على هذه المرحلة وكلُّ ما يجري فيها من نقاشات كانت رافداً لمضامين جديدة في الشّعر، لم يعهدها القدماء، فتبدَّلت - في العصر العبّاسيّ -  موضوعات الشّعر ومعانيه، ومن ثَمَّ استدعت تبدُّلاً في الألفاظ والصّياغة الشّعريّة وبناء القصيدة أيضاً، ولم يقف الشّاعر عند حدود النّظم، وتجاوز ذلك إلى حدود النّقد، ودخَل إلى عالمِه، وصار هو النَّاقد الأوّل لما يكتب. وكان أبو تمّام من هؤلاء الشّعراء الّذين جمعوا بين الإبداع والنّقد، فقد اشتغل بالنَّقد الأدبيّ، وبثَّ فيه آراءَه وتوجيهاتِه.